دخل الإخشيدي – الذي حكم مصر أيام عهد المماليك – مع صاحب له مقيد بالحديد ، فمرا على رجل له شوي ( أي مطعم بذلك الزمان ) فقال لصاحبه : أتمنى أن يشتريني صاحب هذا الشوي فأشبع لحما ، وقال الإخشيدي : أتمنى أن أحكم مصر بأكملها... ودارت الأيام واشترى صاحب الشوي ذلك المملوك ، وحكم الإخشيدي مصر في قصة طويلة معروفة بالتاريخ .
من هو الاخشيدي :
هو أبو المسك كافور الإخشيدي لقبه الليثي السوري (292 - 357 هـ / 905 - 968 م) كان من رقيق الحبشة وأصبح أحد حكام الدولة الإخشيدية في مصر وسوريا ، كان الحاكم الفعلي لمصر منذ 946 بعد وفاة محمد بن طغج وأصبح كافور سنة 966 م واليا على مصر حيث حكمها ثم توسع إلى بلاد الشام دام حكمه لمدة 23 عاما وهو صاحب الفضل في بقاء الدولة الإخشيدية في مصر.
حياته :
اشتراه في عام 923 محمد بن طغج مؤسس الأسرة الإخشيدية كأحد الرقيق من الحبشة ، وكان مخصي وأسود اللون ، ولم يكن كافور علي سواده وسيماً بل كان دميماً قبيح الشكل مثقوب الشفة السفلي مشوه القدمين بطيئاً ثقيل القدم ، فوقع في يد أحد تجار الزيوت فسخره في شئون شتي . وقاسئ كافور الأمرين ولقي الكثير من العنت من سيده. حتى إذا خرج من تحت قبضة سيده ووقع في يد محمود بن وهب بن عباس الكاتب ، فعرف كافور السبيل نحو القراءة والكتابة فنفض يديه متاعب المعصرة وأدران الزيت فالسيد الجديد ابن عباس الكاتب هذا كان موصولاً بمحمد بن طغج ويعرفه منذ كان قائداً من قادة تكين (أمير مصر وقتها) وقبل أن يصبح ابن طغج علي حكم مصر. حمل كافور هدية من مولاه إلي ابن طغج ، عينه الإخشيد كمشرف على التعاليم الأميرية لأبنائه ، ورشحه كضابط في الجيش.
كان يفضل البقاء والإخلاص لسيده ليس طمعا في إرثه أو هداياه كما فعل بقية الناس وعندما انتبه سيده لذكائه وموهبته وإخلاصه جعله حرا وأطلق سراحه. أرسل كافور كقائد عسكري في عام 945 لسوريا ، كما أرسل ليقود حملات أخرى في الحجاز ، كما أن له خلفية بالترتيبات والشؤون الدبلوماسية بين الخليفة في بغداد والأمراء الإخشيديين.
أصبح الحاكم الفعلي لمصر منذ 946 بعد وفاة محمد بن طغج (كوصي على العرش) وتوفي في القاهرة كما أنه دفن في القدس. بالرغم من أن المؤرخين وصفوه بأنه حاكم عادل ومعتدل ، إلا أن شهرته ارتبطت بالقصائد الساخرة الموجهة ضده من قبل المتنبي الشاعر الأكثر شهرة عربيا.
لم يمنعه الرق الارتقاء في السلطة وحكم مصر وأجزاء من سوريا بل ساعدته في الانخراط في السلك العسكري وتميزه فيه ، وكانت كمثال على أن التاريخ الإسلامي والدول الإسلامية بصورة عامة لا توجد بها عنصرية ويمكن لأي فرد عادي بغض النظر عن أصله أن يرتقي بالسلطة وأن ينخرط في جميع المجالات فحافظت على تماسك الثقافة والتفاعل بين الأفراد المختلفين.
اكتسب شعبية بين العلماء والأدباء ويجد راحته مع العلماء والشعراء. وكان يحيط نفسه برجال الدين وأكرمهم بالكثير من الهدايا. وعرف برعاية المهرجانات وقام المتنبي أحد أشهر الشعراء المعاصرين له بمدحه ، ومع ذلك لم يكافئه أبو المسك بمنصب رفيع ولم يمنحه الهدايا المنشودة فسخر منه وهجاه ، وكان من أشهر أبيات الشعر التي هجا بها المتنبي كافورا:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
ارتبط بزوغ كافور في الدولة الإخشيدية بالظروف السياسية لهذه الدولة ، فقد استطاع أن يدير دفة الدولة عقب وفاة محمد بن طغج الإخشيد ، حيث إن أنوجور (محمود) بن محمد بن طغج كان لا يزال صبيًا في الخامسة عشرة من عمره ، ويروي أن كافور لم يكن ليتيح لأونوجور هذا الفرصة كي يمرن نفسه علي الحكم فيفيد منه ولم يكن ليدعه يظهر للناس حتى لا يعرفونه ، أفل نجم أونوجور سريعاً ليسطع نجم كافور الذي دعا له الخطباء علي المنابر دون أونوجور ، في الوقت الذي كان ينال فيه أونوجور ما خصصه له كافور من مال بلغ أربعمائة ألف دينار في العام.
وآلت الأمور لكافور الذي ملك السلطة والمال في يده ، وضاق الأمر بأونوجور وقتها فترك العاصمة وادعي بأنه سيخرج للهو والصيد ، فاتجه إلي ناحية الرملة بأرض [فلسطين] ليمكن نفسه ويجمع شتات من حوله ومن هم برمون بأبي المسك ، وفي قرارة نفسه ونيته انتزاع ما سُلب من ملكه ، ولكن أماً لأونوجور كانت أبصر من ابنها رأت بأن الضجر بكافور لم ينته إلي قلوب كثيرة من ذوي النفوذ ، والجند علي الدوام رهن بأرزاقهم يعطون قلوبهم حيث يضمنونها، ورأت أن مافي خزائن ابنها لا يكفي فهو شيء قليل لا يكاد أن يكفي ماهم طامعون فيه ، فحذرت ابنها من مغبة الهزيمة ، ورأت في الوقوف إلي جانب أبي المسك مزية ومكسباً لأسرتها ، وهنا نجد أن كافور قد تنازل عن جانب من كبريائه وبطيب خاطر كتب لأونوجور يسترضيه ويمنيه ، ولكن الملك الصغير كان قد نسي مسألة الملك هذه وقنع بما يصله من دريهمات ، وهنا أصبحت الأمور جادة وبقي كل شيء في يدي أبي المسك من جديد ، وظل الأمر هكذا حيث مات أونوجور عن عمر يناهز الثلاثين عاماً وذلك في سنة تسع وأربعين ومائتين من الهجرة عاش منها كافور في ظل أونوجور سلطاناً حقيقياً ممسكاً بكل مقاليد الحكم مدة أربعة عشرة عاماً ، وقيل أن كافور دس له السم ليستريح منه وليزيحه من طريقه ، فتولي من بعده أخوه علي بن الإخشيد الذي كانت نفسه تمتلئ رعباً من سطوة كافور وشدة بأسه ، وكافور يعطي لعلي بن الأخشيد مثلما كان يعطيه شقيقه أونوجور في السابق ، ولكن السلطة التي قبض عليها كافور بشدة جعلته يُضيق الخناق عليه فلم يتركه يظهر للشعب مما جعل الصبي ينحدر إلي حياة اللهو والدعة ثم اتجه للانقطاع للعبادة يجد فيها سلواه ، حتي إذا أرهقته العبادة شمر عن ساعديه ليبحث عن حقه المسلوب يطلبه ، فما كان من كافور إلا أن عجل بموته بعد أن دس له السم أيضاً.
ولم يحصل كافور على تفويض من قبل الخلافة العباسية. بيد أنه لم يواجه اعتراضًا من قبلها ، وكان يلقب بالأستاذ ، ويكنى بأبي المسك ، وكانت السياسة الخارجية لكافور استمرارًا لسياسة محمد بن طغج الإخشيد في الحفاظ على علاقة متوازنة مع كل من العباسيين والفاطميين.
وبصفة عامة ، فقد كان قريبًا من قلوب المصريين لكونه سخيًا كريمًا ؛ وينظر بنفسه في قضاء حوائج الناس والفصل في مظالمهم ، وفي عهده اتسع نشاط دعاة الفاطميين في مصر.
كافور والمتنبي :
شغل أبا المسك كافور دولة بني الإخشيد قرابة واحداً وعشرين سنة أو تزيد كانت هذه الدولة قد دام حكمها لمصر مدة أربعاً وثلاثين عاماً ، عاش كافور يدبر أمور الحكم في الدولة مع مولاه ، حتي قيل ان هذه الدولة ماحكمت بقدر ما كان الحكم فيها لكافور ذاته ، بل ويمكن القول أن دولة بني الإخشيد هي التي سوت الطريق وجعلته ممهداَ ليفتح سبيل حكم مصر أمام هذا الرجل ، الذي ملأ مكانه كما لم يملأه أحد من قبله ، حتي أنه شغل شعرائها فنجد شاعراً بقامة أبي الطيب المتنبي مدح كافور فأنصفه ، وحين انقلب عليه وهجاه لم ينصفه ، فحين مات كافور ودُفن بالقدس بعد أن حُمل جثمانه إلي هناك وجد مكتوباً علي شاهده شعراً للمتنبي قال فيه :
مابال قبرك ياكافور منفرداً ** بالصّحصح المرت بعد العسكر اللجب
يدوس قبرك أحاد الرجال وقد ** كانت أسود الشري تخشاك في الكتب
وكان من أشهر أبيات الشعر التي هجا بها المتنبي كافورا:
نَامَتْ نَوَاطِيرُ مِصرٍ عَنْ ثَعَالِبِها *** فَقَدْ بَشِمْنَ وَما تَفنى العَنَاقيدُ
صَارَ الخَصِيّ إمَامَ الآبِقِينَ بِهــَا *** فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ *** إنّ العَبيدَ لأنْــــــجَاسٌ مَنَاكِيدُ
مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكرُمَةً *** أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ
أمْ أُذْنُهُ في يَدِ النّخّاسِ دامِيَــــةً *** أمْ قَدْرُهُ وَهْوَ بالفِلْسَينِ مَرْدودُ
أوْلى اللّئَامِ كُــــوَيْفِيرٌ بمَعْذِرَةٍ *** في كلّ لُؤمٍ، وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أنّ الفُحُولَ البِيضَ عاجِزَة *** عنِ الجَميلِ فكَيفَ الخِصْيةُ السّودُ؟
إرسال تعليق